Powered By Blogger

الثلاثاء، 7 أبريل 2009

مؤسسات المجتمع المدني .. حضور الدور وغياب المؤسسة!

لا شك أن السعودية تنعم باقتصاد قوي واستقرار سياسي يميزها عن كثير من الدول النامية وحتى بعض الدول المتقدمة. وهي كدولة قطعت مشوارا طويلا منذ تأسيسها ومرت بعدة مراحل أنجزت من خلالها مشاريع تنموية ضخمة على جميع الأصعدة السياسية والاقتصادية والاجتماعية. إن ما يميز التجربة السعودية هو التغيير المتزن الذي يستوعب المستجدات وفي الوقت ذاته الحفاظ على الهوية والقيم الأصيلة، بل والاعتزاز بها.
هذا التوازن في تحقيق التنمية الاجتماعية هو ما افتقده كثير من دول العالم الإسلامي في مسيرته نحو الرقي الاجتماعي والتقدم الصناعي. إن عملية التنمية اقتضت بناء مؤسسات قادرة على إحداث التغيير الاجتماعي والاقتصادي المطلوب ووضع نظم ومنهجيات لرفع أداء الاقتصاد الوطني وتحويله من اقتصاد تقليدي بسيط إلى اقتصاد أكثر نضجا ومقدرة.
في القطاع الحكومي استحدثت الوزارات والإدارات الحكومية لتقديم الخدمات العامة وتنظيم التعاملات الاقتصادية وإصدار وتطبيق التنظيمات. والحقيقة أن المؤسسات الحكومية أبلت بلاء حسنا في تحويل المجتمع وتطويره وإحداث قفزات نوعية في مجالات الصحة والتعليم والأمن والاتصالات والنقل. وكانت هذه التطورات أكثر وضوحا في بدايات تأسيس الدولة, حيث تم نقل المجتمع من الانتماء القبلي إلى الانتماء الوطني ومن الترحال إلى الاستيطان ما شكل حجر الزاوية في استتباب الأمن والرفاهية الاقتصادية والتحضر الاجتماعي.
تلا ذلك الارتقاء بعملية صنع القرار العام والعملية السياسية، فشهدت السعودية عدة تطورات تدريجية على الصعيد السياسي والإداري، كانت بدايتها مجموعة من التنظيمات إلى أن تم تأسيس مجلس الوزراء كتنظيم رسمي مركزي، مرورا بنظام المناطق ونظام الحكم ونظام مجلس الشورى وأخيرا تفعيل المجالس البلدية. القصد من هذا السرد هو الإشارة إلى أن تطور التنظيمات كان ليواكب المتغيرات وبما يفي بمتطلبات كل مرحلة ويلبي احتياجاتها. وفي هذه المرحلة تظهر الحاجة إلى تنظيمات جديدة تتعلق بإنشاء مؤسسات المجتمع المدني.
أما التطورات الاقتصادية فقد كانت بطيئة نوعا ما في البدايات، فقد كان القطاع الخاص متواضعا بسيطا لا يملك كثيرا من مقومات الصناعة الحديثة والإنتاج الوفير ولا التنظيمات الإدارية والتقنيات الإنتاجية. وظل هذا الوضع ردحا من الزمان حتى أفاء الله على هذه الأمة من الخير الوفير وذهبت الحكومة تنفق إنفاقا سخيا في جميع المجالات هدفها رفع المستوى المعيشي للمواطن. لقد كانت طفرة اقتصادية عظيمة حدثت في منتصف السبعينيات من القرن الماضي خلال الخطة الخمسية الثانية التي من خلالها تضاعف حجم الاقتصاد الوطني وأصبح القطاع الخاص يلعب فيه دورا كبيرا ومميزا لم يكن معهودا من قبل. وفي ظل انتهاج الدولة نظام الاقتصاد الحر, الذي من أهم ميزاته حرية التملك والبيع والشراء, نما القطاع الخاص وأصبح يقدم السلع والخدمات المتنوعة بجودة وأسعار تنافسية. بل إن القطاع الخاص اقتحم مجالات لم يطرقها من قبل مثل خدمات التعليم والصحة والإعلام. هذه الجرأة الاستثمارية كانت بتشجيع ودعم حكومي سخي. إذ تبنت الحكومة استراتيجية تنموية طموحة وكان لا بد أن تكون من خلال القطاع الخاص انسجاما وتوافقا مع النهج الاقتصادي للدولة, وهو اقتصاد السوق.
وظل القطاعان العام والخاص يقومان بتوفير السلع والخدمات وانحصرت عملية صنع القرار الاقتصادي والاجتماعي بينهما. وهو أمر مقبول في ظل ظروف اقتصادية واجتماعية وسكانية بسيطة غير معقدة. إلا أن المتغيرات والتطورات السريعة أظهرت جليا الحاجة إلى بعض الخدمات التي يعجز القطاعان عن توفيرها. فإذا كان القطاع العام (الحكومي) يلبي الاحتياجات العامة ويوفر الخدمات والسلع العامة التي يعجز القطاع الخاص عن تقديمها لطبيعتها في عدم القدرة على استثناء أحد من الانتفاع بالخدمة وخاصية عدم التجزئة ما لا يمكن من وضع أسعار على السلع العامة, في المقابل فإن آلية السوق التنافسية ونظام الأسعار يؤديان إلى توفير السلع بأقل سعر وأعلى جودة وتلبية رغبات الأفراد بتنوع السلع والخدمات ما تنتج عنه كفاءة اقتصادية عالية واستخدام أمثل للموارد. ويمكن الخلوص في القول إلى أن القطاع العام يحقق المصلحة العامة للمجتمع والقطاع الخاص يلبي المصلحة الخاصة للأفراد. لكن هل هناك احتياجات أخرى في المجتمع يجب تلبيتها؟ نعم، هناك قطاع ثالث يقدم خدمات يعجز القطاعان العام والخاص عن توفيرها. هذا القطاع يتميز بأنه يقدم خدمات تلبي الاحتياجات الخاصة الجماعية, أي أنه يتعلق بمجموعة المصالح الخاصة. بمعنى أن خدمات هذا القطاع تشترك بخصوصية القطاع الخاص وعمومية القطاع العام. هذا القطاع الثالث يطلق عليه مؤسسات المجتمع المدني. ومن أهم الأمثلة عليه جمعيات النفع العام والجمعيات المهنية والنقابات العمالية. وعند الحديث عن مؤسسات المجتمع المدني فإننا نتحدث عن مؤسسات ذات استقلال مالي وإداري وسلطات تشريعية تضع المعايير وشروط العضوية ورسومها وتسعى إلى تحقيق المصلحة المشتركة للمنتمين إليها وتدافع عن قضاياهم ومصالحهم. ما يهمنا في هذا الصدد هو الجمعيات المهنية التي أصبحت ضرورة ملحة في ظل اتساع الهوة بين القطاعين الخاص والعام وظهور بعض السلبيات في الأداء الاقتصادي لا نستطيع معالجتها إلا بإيجاد جمعيات مهنية في القطاعات الاقتصادية المختلفة ترعى مصالح المنتمين إلى القطاع وتقوم على تطويره ووضع المعايير والأخلاقيات المهنية والارتقاء بالمهنة والتسويق لها وتوحيد الجهود بين منتسبيها والتنسيق فيما يضمن عدم تضارب المصالح والإضرار بالمهنة. قد يقول قائل إن هناك جمعيات مهنية مثل جمعية المهندسين أو جمعية الإدارة أو الاقتصاد أو المحاسبة..وغيرها. إلا أن هذه الجمعيات لا تعدو كونها جمعيات أكاديمية تعنى بالبحوث والدراسات وعقد الاجتماعات والندوات والتقاء ذوي الاختصاص وليس لتقنين المهنة ورعاية مصالح المنتمين إليها من الجانب القانوني، وهي بلا شك لها دور تثقيفي أكاديمي إعلامي ولكن ليس تشريعيا قانونيا يمكنها من اتخاذ قرارات تتعلق بتقنين المهنة وفرض قراراتها على المتعاملين داخل القطاع. أمر آخر يتعلق بالجمعيات المهنية الحالية وهو أنها تعتمد على تخصصات علمية وليس الممارسة المهنية. أي أن هناك مهنا ليس بالضرورة تدرس كتخصصات علمية في الجامعات وبالتالي تحرم من تأسيس مثل هذه الجمعيات. على سبيل المثال قطاعات: المقاولات، العقار، تجارة التجزئة، وتجارة الجملة.. وغيرها كثير لا يسعها تكوين جمعيات تنظم مهنتهم وترعى مصالحهم. وأود أن أشير في هذا السياق إلى أن الجمعيات المهنية حتى ولو أنها في ظاهر الأمر ترعى مصالح منتسبيها إلا أنها أيضا تهدف إلى الارتقاء بمستوى تقديم الخدمات المهنية نوعا وكما وجودة وتوزيعا بما يعود بالنفع على المستهلكين. إن غياب الجمعيات المهنية يعني عدم قدرة القطاعات الاقتصادية المختلفة على تنظيم المهنة ما يتسبب في تضارب المصالح وتراجع مستوى المهنة وسوء في توزيع الخدمات وتكرارها. إن النظرة الجماعية للمصلحة الخاصة هو ما نفتقده في تفعيل المهن المختلفة وتعميق المسؤولية الذاتية والمبادرة نحو تقديم الأفضل. من هنا أقترح أن تتحول اللجان المهنية في الغرف التجارية الصناعية إلى جمعيات مهنية فاعلة تتمتع باستقلالية تامة لتقود قطاعاتها إلى مستويات مهنية أعلى وأداء متميز وممارسة للمهن من خلال معيار (كود) أخلاقي مهني. إن الدور الحالي للجان في الغرف التجارية الصناعية لا يتعدى محاولة معالجة قضايا آنية مع القطاع الحكومي وفي معظم الأحيان تكون الاهتمامات في أضيق الحدود ولمصالح فردية أكثر منها مصلحة المهنة. ومن أجل تحقيق التأثير المطلوب من الجمعيات يجب التأكيد على أحقية هذه الجمعيات في اتخاذ القرارات التي تنظم المهنة ودون هذه السلطات ستكون عديمة الفائدة. أما الجمعيات المهنية الحالية (الأكاديمية) التي تم تحويلها إلى شعب داخل تنظيم بيروقراطي كبير فليس لها نصيب من الجمعيات المهنية إلا الاسم، فإذا ما أردنا النجاح في تفعيل الجمعيات المهنية وجعلها ذات تأثير يلزم أن تتمتع باستقلال تام وتتخذ قرارات تنظيمية حاسمة وأن تربط بممارسة المهنة وليس بالتخصصات الأكاديمية. فكفانا تنظيرا واجتماعات رسمية واحتفالية وتنظيمات ظاهريه وشكلية لا تسمن ولا تغني من جوع. يجب النظر إلى الجمعيات المهنية على أنها تنظيمات تختلف عن التنظيمات البيروقراطية العامة، وإذا لم ندرك هذا الاختلاف سنظل نراوح مكاننا في معالجة قضايانا بالتنظيمات الخطأ ولن نفلح إذاً أبدا. وإذا ما تقرر إنشاء الجمعيات المهنية فيلزم إصدار قانون عام ينظم ويحدد سلطاتها وعلاقتها القانونية بما يضمن استقلالية القرار استقلالا تاما يمنحها الفرصة للتنظيم والتقنين, وبالتالي تلبية احتياجات يعجز القطاعان العام والخاص عن تلبيتها.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق